فائق حسن راهب في محراب الفن

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
13/01/2008 06:00 AM
GMT




 
 
 في الحادي عشر من كانون الثاني عام 1992 رحل فائق حسن ولم يكمل رسم لوحته الاخيرة وترك خيوله تصهل في فلوات قماشات الرسم حزنا واسفا عليه، رحل الفنان التشكيلي العراقي المميز في غربته الباريسية وحيدا، الا من ادواته والوانه وحكايات مرضه وعذاباته و(غليونه) ذلك الذي كان ينسى كل شيء الا هو، تركه مستعرا بالدخان الذي راح يخرج من فتحتيه ثم انطفأ، رحل وكان يتمنى ان يشم رائحة الوطن الذي طالما عبر عنه في لوحاته ورسم حنينه اليه، رحل تاركا ضوء فرشاته يسطع مثل فنار للقادمين الى عوالم الرسم، ورائحة تراب روحه تفوح على تربة ارض وطنه التي طالما أكد انتماءه اليها، رحل شاخصا بابداعاته تاركا فنه قصيدة عشق ابدية تتهجى حروفها العيون العاشقة له ولرسمه ولسرديات علاقاته مع الاخرين.

  فائق حسن الفنان الكبير الذي كان وما زال علامة فارقة في تاريخ الفن التشكيلي العراقي وقامة عالية شهقت بين فنون العالم، فائق حسن المعلم الذي تخرجت من بين يديه افواج الرسامين الذين امتلأت بهم ساحات الفنون العراقية، ومن أسف انه لم يمنح المكانة التي تليق به في حياته وبعد وفاته ضاعت الكثير من اعماله وعاشت الاهمال وجاءت اعمال النهب والسلب لتأتي على البقية الباقية، وحسب احصائية ان (106) لوحات لفائق حسن قد فقدت.
  على مقربة من يوم رحيله لم اعرف الى اين اذهب كي (اراه)، لكن لوحته الجدارية المرفوعة قرب ساحة (الطيران) الواقفة في طرف من حديقة (الامة) في منطقة الباب الشرقي ببغداد التي رسمها عقب ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وعبر فيها عن حرية العراقيين وكفاحهم ضد الاستعمار، تألقت اللوحة امام عيوني، فهرعت اليها، وقفت امامها اتصبب استذكارا لحياة هذا الفنان الكبير،كنت اراه يطل بوجهه من بين الالوان، يحلق في جناحي اليمامة الهاربة من قفصها، ومن الوان الفرح المنبعثة من ارجاء اللوحة، لكن ما احزنني ان الطريق اليها لم يكن سهلا، لم تتضح من بعيد اذ احاطت بها السيارات والعربات وصدأت النافورة المستلقية امامها، كنت اسمع فائق حسن يتحدث عن لوحته وما اصابها من ضرر لم ينتبه اليه اهل الفن ولا سواهم، لم اجد الا ان اتطلع الى الفضاء فوق اللوحة زمن ثم اقرأ ما قاله لي عنه ذات مرة الفنان نوري الراوي: (هذا الفنان الصامت الابدي تحدث الينا بألف (فولت) من الاصابع السحرية، ما احرانا ان نضعه في قمة مباهجنا الدنيوية، وما احرانا ان ان نستعيد النظر اليه وهو يمر على القماشة البيضاء كغيوم الربيع المتلاحقة فيحيلها الى حضور يحتدم بالرؤى والاشواق والولاءات ثم يفرشها على مهاد بساطه الواسع صهد صحارى عطشى وغابات نخيل، هذا الثابت الهاديء المتجذر في الارض بقدرة قدير، رسام الرسامين، استاذ الاساتيذ، انه الفنان المبدع الذي مازال ثابتا على ذات المسافة القائمة بين العباقرة والالتزام ونفس المسافة بينه وبين الاخرين، انه المعلم الصديق الوفي الاثير)، تلك الكلمات اقولها مثل جندي في حالة استعداد واضع وردة على طرف النافورة!!.

  ولد فائق حسن في بغداد عام 1914 في منطقة اسمها (البعجة)، ولد في الساعة نفسها التي توفي فيها والده، فلم ير اباه ولم يره ابوه، فتكفل برعايته خاله البستاني الذي صار فيما بعد يعمل في حدائق البلاط الملكي، وبالفطرة عشق فائق الرسم وصار يرسم تلقائيا وهو القائل (لا اتذكر بالضبط متى بدأت هوايتي للرسم لكن الذي أتذكره جيداً هو انني أنعم بالاحاسيس الغامضة لدى مشاهدتي الاشجار و الخضرة و الانهار الصغيرة)، ويعشق النحت الذي بدأ عنده من الطين الذي يملأ كفي امه وهي (تشكل) الفرسان، فكان يجمع نفسه بين يدي امه وهي تعمل بأصابعها انبهاراته، فصار الطين يتوهج حين يلمسه فيشكله كما يشاء ويتركه مجموعة من حيوانات جامحة امام عينيه وان اعجزه الحصان الواقف حيث كان يضطر الى يجعله باركا كما يقول مع علمه ان الحصان نادرا ما يجلس على ركبتيه كبقية الحيوانات، وسرعان ما تتداعى كل هذه الكائنات وتعود الى الطين الاول، وهو كان يذكر ذلك (منذ ذلك الوقت كان نحت الحصان هوايتي... و كنت أعاني من مشكلات تكنيكية في النحت.. كنت أعجز عن نحت الحصان وهو قائم على حوافره كنت مضطراً لجعله باركاً مع علمي بأن الحصان نادراً ما يجلس على ركبتيه كبقية الحيوانات وشيئاً فشيئاً أمتلكت القدرة على ان أنحت حصاناً بالشكل الذي أرغبه و با لتفاصيل السليمة و الحقيقية).

   فائق حسن.. كان يذهب مع خاله الى حديقة البلاط الملكي وكان لم يزل في السنوات الاولى من دراسته الابتدائية المتأخرة، وهناك شاهده الملك فيصل الاول مصادفة وهو يرسم مشهدا طبيعيا، فأعجب بموهبته المبكرة التلقائية ثم طلب منه الملك ان يرسم صورته، فرسمها بشكل لم يميز الملك منه الصورة عن الرسم، وهنا وعده الملك ان يرسله الى اوربا لدراسة الفن، لكن وفاة الملك عام 1933 حالت دون ذلك، لكن الملك غازي نفذ الوصية بعد سنتين، وسافر فائق الى فرنسا وكانت هذه رحلته الاولى على الطريق الطويل، فدخل مدرسة الفنون (البوزار) في باريس عام 1935، وتخرج منها عام 1938، وحين عاد الى بغداد اسس بعد عام فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة، ومن هنا انطلق فائق يرسم الحياة العراقية بمختلف بيئاتها ويعبر عنها اجمل تعبير، فرسم المدينة التي ولد فيها وذهب الى الريف يسبر مكنوناته وارتحل الى البادية، فكانت خيوله تنطلق صاهلة مالئة فضاءات لوحاته، ونداءات الوانه تؤسس فنا عراقيا جديدا، فرسم كل شيء وتوقف امام كل المواضيع والاشياء ويبعث لها الدفء بألوانه وهو القائل عن تربة العراق (ان في هذه التربة دفئا خاصا وفيها حرارة ضوء تعطي هذه التربة اشعاعا وسحنة سمراء محروقة من خلالها يمكن ان تبصر بعض سمات حضارتنا القديمة، وبالاخص الحضارة السومرية فهي الاقرب الى طبيعة تكوين هذه التربة)، فائق حسن المتألق بالقدرة الفائقة الحسنة على جعل مشاهد الحياة العراقية اليومية تبدو شامخة بالكبرياء والعزة والسمو، والتي ينقلها عبر خطوطه والوانه مترعة بالحالة النفسية التي تطل من بين ظلال الارواح والاجساد.

  فائق حسن.. رسام كبير، وفنان وضع نفسه في اعلى قائمة اساتذة الفن التشكيلي، والحديث عنه طويل، يمتد على اخضرار حياته الممتد الى نحو (78) عاما هو عمره المفعم بالموهبة الكبيرة الخلاقة، وحين نقف امام يومه هذا لانجد الا الكلمات نرسم بها شيئا مما في انفسنا له، عسى ان لاتمر ذكراه مغلفة بالنسيان والاهمال، لانه فائق حسن.